فيروس العربي يراقص الصحراء
سردية فلسفية تنشر توالياً
.... وحين كان فيروس العربي سارحاً في صحاريه .... يتوحى حيناً في واحاته .... متيبساً طوراً من لظى شمسه ، مستظلاً بسعف نخيلها ساعة ، متبلحاً بطمرها دوراً ، وجد نفسه بعد أن أوغل تسيباً وتيهاً جالساً على قمة نخلة شامخة اجتازت بعلوها الغيوم ، ينظر الى العالم الذي تصحن أمام ناظرية ، فبدا بنو البشر في أرضه كطفحٍ على جلدٍ .
قال في نفسه : فلأخطب فيهم وأنا في هذا الموقع العالي ، فلا أحد يستطيع صد الصوت من علوه ولا أحد يستطيع إيذائي إن أثقلتُ كيلي فطفحتُ ونضحتُ بما يُغضب.
ثم شرأب عنقه وقال بصوت جهور :
السلام عليكم ؛
قبل وبعد أن سمحت لنفسي بالإنزلاق إلى عوالمكم الخفية وعوالمكم غير المخفية ، اسمحوا لي أن أكشف لكم سراً نعتمده اساساً لتواصلنا العفوي هذا .
فأنا جيد بالثرثرة غير المفهومة ! والولوج إلى سراديب معتمة ومداهمة غير المتعارف عليه ! الأمر الذي قد يسبب لكم التأفف والضجر ومحاولة التملص إما من هرجي وإما أن تعتمدوا عقدة فان غوغ بأن تتملص آذانكم من ثرثرتي !
ولا بأس بذلك البته ، فلكم كامل الحرية ومطلق الإختيار !وعليكم أن تقرروا منذ البداية فيماإذا كنتم ترغبون بالإستمرار في الإستماع إلي أو التخلي عن هذا الإصغاء!
فأنا أيها النجباء، الأذكياء ! وبعد أن اعتمت مذاهبي ، وشحت مواهبي ، وافلست خزائن فكري من الغالي والرخيص، وجدت نفسي اسهر ليلي على ملل ، ويومي على ضجر ، فكأنني خابية خوت من زيتها ، وكوة أُُفرِغَتْ من قمحها !ونبعة شحَّ ماؤها! ومعدة سُهِّلتْ وكُــنِّستْ فصفق لحمُها على لحمها !!
هكذا أنا الآن !!!
خردة يصفعها الريح شتاء فتتقلص وهي تُحشْرِجُ مُزقزقة ويكويها الحر صيفاً فتتمطى متمددة مطقطقة ! إنها حالة من الخذلان ، حالة من الإستسلام ... فقلت في نفسي ، أجتث فراغي بفأس اللسان .. وأحمل خيالي بروابط الأفكار المحلقة وزواحفها الزاحفة ! علني أخرج من خبيئة الجهل الفارغة ! إلى مراعي الفكر والشعر حتى ولو أصبت بالخوار والمعاء !
ولأنني استكلفت الولوج إلى خنادق الأفهام بالريَشِ والأقلام ، قلت لنفسي : أطلق لنفسك اللسان !! أطلق لفكرك عقيرته ... تستفيق من هذه الحالة الرابضة على صدر أيامك ... وشراشف أحلامك !!!
وأجبت : فليكن ... فهذا ما أتاحته لي الصدفة في تسيُّبي وسرحي !! وها أنا الآن أجلس على هذه النخلة التي توسطت صحراء الكون ، وقد استأسد في فمي الكلام وثغا في قلبي الشوق لإحدثكم بما يتململ في مهد أحلامي ويتأرجح في أراجيح خيالي . والحقيقة أيها الأخوة البررة ، فإن المواضيع التي تشغل بالي وتُحدث بلبالي تزيد بأضعاف عن تلك التي لا تلمس اعتناء فضولي ولا تُليّن ملايِنَ ميولي !! فكأن كل ما يتبدى لبصري وبصيرتي أحجية يمتحني بها الكون بفضها وحلها واستبيان حقيقتها !! وكيف لي أن أفعل مثل هذا أيها الأخوة السامعين !! وأنا في مثل هذه الحالة ، والغموض يداهم روحي ... وطلاسم الكون تعلب إدراكي ... ومجاهل الغيب تطبق على فراستي وحكمتي !!؟
الحقيقة ، أنا لا أعرف من أين أبدأ ... وإلى أين سأنتهي !.
استوى في جلسته فوق النخلة الماردة وسرح في نظره فأنبهر من المشهد المسائي اللائح أمام ناظريه !.
كان ضوء الشمس يستلقي على حوافي الأفق البعيد، كشقراء تتسفع على ضفاف نهر ينساب تحت قدميها العاريتين ... فبدت كأفعى اسطورية انغرست اهداب الشمس في شفافية جلدها وهلامية جسدها الريان !فسحَّ دمُها يشق مسارب ضوئية فوق سطح البحر وثنايا لججه !!
فهمس مناجياً:
لجَمتْني هيبةُ البدعة .... أذْهلنَي سحرُ الكون !!
ثم غرق في تأملاته وقد أغمض عينيه ورفع رأسه إلى أعلى كمن يخاطب مصاغي الغيب !
وفجأة شعر بحشرة تحبو على ساقه ، فنظر يتأملها متفحصاً ، وقال لنفسه :
لكم ظلمتنا هذه الطبيعة بكرمها وعطائها !! وكم عدلت ببخلها على هذه الحشرة ومن يشبهها من الأحياء والنبات !!!
أكرمت علينا برغبتين وأكرمت عليها برغبة واحدة !!
أكرمت علينا برغبة العقل والجسد !! وعليها فقط برغبة الجسد !!
انها تتألم حين تُؤذى !! ونحن نتألم ونتعذب معاً !!
نحن نعي فعلنا وهي تعيش فعلها ولا تعيه !
إنها تعيش علم البقاء والإكتفاء ونحن نملك علماً بجهل سر البقاء !!
فما أتعسنا بوعينا ... وما أسعدها بالجهل !!
وظل صامتاً لبرهة يرمق الصحراء والغروب متأملاً نزوح الشمس إلى ما خلف شفقها !! ومن ثم عاد يهمس بصوته المسموع :
- غرائز الحيوان هي كل علمه ! وغرائز الإنسان هي راية جهله !!! فكأن من استعبدته الغرائز نسيه العقل !!!